ماذا يحدث في مشهد الراب المصري؟ سؤال يدور في أفق الجميع بلا هوادة ودون أن يجد إجابة من أحد، داخل الصناعة أو خارجها. تغيرات جذرية طرأت على مشهد الراب في السنوات الأخيرة فبدلته وغيرت ديناميكيته، وجعلت منه شيئاً مختلفاً لا يمت بصلة للجذور التي أنبتت ثماره. تحولات فكرية وثقافية وموسيقية، وتغيرات طرأت عليه فأفقدته الكثير وأكسبته الكثير أيضاً. بين النجاح التجاري والقيمة الفنية علاقة عكسية منذ القدم. قليلون فقط في تاريخ الموسيقى تمكنوا من حساب تلك المعادلة بدقة، فوازنوا بين الشقين. ولكن ما حدث من تغيرات على مشهد الراب المصري أفقده الكثير من القيمة الفنية وصعد به إلى قمة النجاح التجاري، في تضحية مبررة ومفهومة من منظور رأسمالي، وربما مقبولة ويتم التشجيع عليها من المؤثرين في الصناعة.

في عام 2017، أصدر مؤشر نيلسن تقريره السنوي الذي أفاد بأن الراب مثّل 8 ألبومات من بين أنجح 10 ألبومات في السنة ذاتها، متفوقاً بذلك على الروك والبوب كأنواع موسيقية سيطرت على تلك المساحة من النجاح التجاري لعقود. تقرير كهذا لا يبدو مفاجئاً الآن، ولا حتى في ذلك الوقت، كون الراب قد انتشر كالنار في الهشيم في صناعة الموسيقى مع بداية العقد الثاني من الألفية، بعد الاكتساح الذي حققته موجة التراب التي اجتاحت مشهد الموسيقى الأمريكية والغربية كالعاصفة على يد فنانين مثل يانغ ثاج، فيوتشر، وترافيس سكوت، الذين بنوا وطوروا أسسًا وضعها كيد كادي وكانيي ويست لتقريب الراب من البوب وتحويله من موسيقى غاضبة، مفعمة بالكلام القاسي ولغة الشارع، تستمد قوتها من الكتابة الشعرية، إلى موسيقى أكثر لحنية تلعب على الصوت أكثر من الكلام وتتناول موضوعات أكثر شخصية، تتمحور حول المشاعر والمشاكل الفردية.

في الوقت ذاته، وفي الجانب الآخر من العالم، وتحديداً في مشهد الموسيقى المصري، كان الراب في مهده تجاريًا. على الرغم من أن محاولات صناعة الراب هنا كانت موجودة منذ التسعينات، إلا أن هناك فجوة عملاقة كانت دائماً تفصل بين المشهد المحلي في مصر وما يحدث خارجه. ظل الراب في مصر حتى منتصف العقد الماضي في حالة تأخر غير مبرر، تمسك فيها صانعوه بمبادئ بالية ومفاهيم مندثرة عن ماهية موسيقى الراب، مما أبقاهم في محيطات "الأندرجراوند".

ظهرت أول محاولة حقيقية للتغيير، والتي يمكن وصفها بالثورية على يد أبيوسف وأحمد الغازولي (سواج لي)، اللذين تمكنا من صناعة موسيقى تواكب نسبياً ما يحدث في مشهد الراب الغربي. كان مسار تجربة أبيوسف وزولي تجريبياً وليس تجارياً، فقدموا موسيقى راب طازجة، ثورية على محيط الراب المصري ومفعمة بالأسلوب. العنصر الأكثر تأثيراً في تلك التجربة بجانب إنتاج زولي المتقدم على عصره، كان كلمات أبيوسف التي قدمت طريقة كتابة عربية - ومصرية تحديداً - خالصة، غير دعائية ولم تحاول تقليد أو استعارة ثيمات الراب الغربي، حتى على صعيد اللغة كانت أصلية تماماً في تكوينها، مما ضَخَّ طاقة جديدة تماماً في المشهد وأثر على مجموعة من الرابرز الصاعدين الذين سيأخذون الراب فيما بعد إلى قمته التجارية.

الآن، بينما تصدر هذه المقالة، يحتل الراب كل أنحاء صناعة الموسيقى محلياً وعالمياً. الجانرا الأولى في العالم من حيث أرقامها وصُنّاعها مشاهير الصف الأول. في سنين قليلة تمكن مشهد الراب في مصر والعالم العربي من اللحاق بقرينه الغربي ومواكبته، بل والتفوق عليه أحياناً، بفضل الانفتاح الذي أحدثته السوشيال ميديا والإنترنت بالطبع قبل هذا، واطلاع الرابرز والمنتجين على ما يحدث في المشهد الغربي وغيره. بالنظر إلى النجاح التجاري والانتشار الواسع للهيب هوب، فقد كان كسلاح ذي حدين على الجانرا، من ناحية عالمية ومحلية. فبالنظر إلى المشهد الأمريكي تحديداً - مهد الهيب هوب - نجد أن الهيب هوب قد اخترق كل الجانرات الموسيقية وأثر فيها تأثيراً ملموساً حتى أصبح كل شيء تقريباً هيب هوب. ولكن محلياً، تجارية الهيب هوب في بداياتها كانت شبه مرفوضة تقريباً من ال8جميع فيما عدا صُنّاعه وجمهوره، الذي كان في الأغلب الجيل الأصغر سناً، ولكنه قابل رفضاً صارماً من الرأي العام ومنظومة الفن المحافظ. لكن رغم ذلك، تلك التجارية التي توصل إليها المشهد عبر عمل جماعي ونمو سريع ساهمت في بناء بنية تحتية صلبة للجانرا ساعدت في استمراريتها وتوسعها. فأصبح هناك مشهد حقيقي ومؤثر، وصل ذروته في 2020 بتحول الرابرز إلى مشاهير الصف الأول، ومن ثم بدأ ذلك المنحنى الإبداعي بالانحدار لأسباب شتى ستصيبه بالسقم، قاضية على حركة موسيقية هي الأجرأ والأكثر تأثيراً في الجيل الجديد. 

نعود إلى عام 2017 مجددًا لوضع بعض السياق ورسم الصورة كاملة، حيث ظهرت في مدينة الإسكندرية حركة من نوع خاص، يمكن وصفها بمصطلح (scenius) الذي قدّمه أسطورة الأمبينت والفيلسوف الموسيقي بريان إينو، في وصف العبقرية الجماعية لمشهد فني ما. ظهرت تلك الحركة في مختلف أنحاء مصر، لكنها كانت أكثر وضوحًا في الإسكندرية، حيث تصدّرها شابان أخذا على عاتقهما إخراج الراب من مستنقعات الصناعة إلى أعلى مستوياتها التجارية. ظهر مروان بابلو وويجز، اللذان يُعتبران أهم شخصيتين في التحول المحوري للجانرا بعد أبيوسف، بصحبة ليجي سي وآخرين، كدخلاء على صناعة الموسيقى بإمكانيات شحيحة. وقد تحقق النجاح من خلال عمل جماعي حقيقي من شخصيات كثيرة خلف الكواليس لاختراق الغلاف التجاري للصناعة تدريجيًا وببطء. الاختلاف الجذري في تلك الحركة الفنية كان في وعيها بما يحدث في المشهد الغربي للهيب هوب، وبالتحديد في أمريكا، بالإضافة إلى اتحادها في اتجاهات وأهداف مشتركة ضمنيًا، وهو صناعة موسيقى تستمد ثيماتها من تجارب شخصية، متمردة وناقدة لما حولها من خلال عدسة ذاتية، موسيقى تعبّر عن جيل تأثر تكوينه بالإنترنت واطلع على الثقافة الغربية، وهو جيل أغلبه من الطبقة المتوسطة ولم يجد من يمثله في الصعيدين الأكبر لصناعة الموسيقى في مصر آنذاك وهما البوب والمهرجانات.

قدمت تلك المجموعة، التي استلهمت من تجاربها الشعورية وخلفيتها المتعددة التأثيرات، ربما أهم حركة فنية في الألفية الجديدة في مصر، والتي تزامنت مع حركات مشابهة في مختلف مناطق الشرق الأوسط كالمشهد المغربي والفلسطيني. الفترة بين 2017 و2019 كانت بمثابة الحقبة الذهبية لمشهد الراب المصري تحديدًا، حيث شهدت تنافسية شديدة بين الرابرز وإصدارات محكمة ومتقنة وغزيرة، دون أن يأتي ذلك على حساب الجودة. كانت هناك طاقة نهمة تسيطر على جميع صناع الراب، من بروديوسرز ورابرز إلى شركات إنتاج صغيرة ومصورين ومخرجي فيديوهات ومصممين، في حركة فنية شاملة اتخذت الراب كوسيط للتعبير.

لم يكن هذا جيلاً متمردًا على الصعيد السياسي، وصفهم الكاتب مينا ناجي بجيل "ما بعد الثورة". يقول ناجي في مقال نشره على موقع المرايا بعنوان "ما تبقى من مشهد الراب" حول تلك الحقبة وذلك الجيل: "بوصلة هذا الجيل ليست الاحتجاج الاجتماعي، بل التفوق الاجتماعي، قبول الواقع واللعب عليه لا تغييره." تفوق ذلك الجيل فنيًا بفوارق كبيرة، رغم أن جماليات الموسيقى كانت تستمد كثيرًا من المشاهد الغربية، ولم تكن متأصلة في الثقافة والهوية المصرية، إلا أنهم نجحوا في توظيف عناصر الهيب هوب والتراب لصالحهم، وخلقوا صوتًا خاصًا بهم تمثّل في خلطة التراب الشعبي الثورية التي كانت قمة الهرم فنيًا وتجاريًا.

ما ساعد في انتشار الهيب هوب في تلك الفترة بالتحديد كان قدرته على التأثير في الجيل الأصغر من المستمعين. الموسيقى عبّرت عن جيل مهزوم ومحاط بالإحباط من كل اتجاه، خاصة في الطبقات الوسطى. بينما كانت المهرجانات هي الموسيقى البديلة للبوب المصري، وكان تأثيرها واضحًا وملموسًا، إلا أنها لم تعبر عن جيل الإنترنت الذي وجد نفسه في بلد مفكك سياسيًا واقتصاديًا بعد ثورة كبرى جعلت مستقبله غامضًا وبدون خيوط واضحة، فكان الإنترنت ملاذه. تعرّض هذا الجيل للميديا الغربية، الأمريكية بالتحديد، وتأثر بها بشكل ملحوظ.

الرابرز من ذلك الجيل اختلفت مواضيعهم عن جيل ما قبلهم، فلم يهتموا بما يحدث سياسيًا، ولم يركزوا على مواضيع الراب التقليدية كالتبجح وفرض السلطة المزيفة والتفاخر. على سبيل المثال، لو استمعنا إلى تراك "باليرينا" لويجز من تلك الحقبة، نجد ويجز يلقي سطورًا بسيطة عن أحلام الصعود الطبقي التي ترسخت في الطبقة الوسطى من ذلك الجيل: "كل طموحي فلوس وفيزا." كلمات عبرت بصدق عن مجموعة ديموغرافية لم تجد من يعبر عنها. على عكس مهد الهيب هوب في أمريكا الذي نشأ من الطبقة الفقيرة، فإن الراب في مصر نشأ من الطبقة الوسطى التي اطلعت مبكرًا على العالم من حولها.

بحلول عام 2021، وصل الراب في مصر إلى قمة تجاريته محققًا أرقامًا غير مسبوقة في الانتشار ومحتلاً جزءًا كبيرًا من صناعة الموسيقى المصرية. استغلت الشركات الكبرى ذلك النجاح في اعتماد شبه كلي على الرابرز لقيادة حملاتهم الإعلامية، وفي الوقت نفسه عززت من شرعية الراب كنوع موسيقي ذو جماليات فنية خاصة به داخل الصناعة الأكبر، حتى وإن كانت تلك الشرعية الفنية غير معترف بها من قبل الإعلام الرسمي والمؤسسات الرسمية مثل نقابة الموسيقيين، التي كانت في مهمة مستمرة لتقليل وإنكار تلك الظاهرة، ولا تزال على استحياء.

بقيادة فنانين مثل ويجز، مروان بابلو، مروان موسى، عفروتو، موسى سام، وأبو الأنوار، أصبح الراب بالنسبة للمنظومة الفنية في مصر بمثابة الفيل في الغرفة، وأصبح من المستحيل تجاهله. بدأت النقابة، بقيادة مصطفى كامل، في محاولات هزلية لخوض مناقشات مع صناع الراب الكبار لمحاولة ترويضهم، والحديث عن ضرورة وجود عازفين وآلات حية في حفلاتهم، وهو أمر غير منطقي يكشف عن قدم تفكير المنظومة الفنية وتمسكها بمبادئ عفا عليها الزمن.

الأغرب أن ما حدث كان تراخيًا كبيرًا من صناع الراب أنفسهم الذين وافقوا على شروط النقابة، وترسخ لديهم شعورًا بالنقص بسبب النظرة الجماهيرية للراب، وتعريفات النقابة المتخلفة لما هو فن، على أن الراب فن أقل من غيره. بدأوا تدريجيًا، وربما لا وعيًا، في الخروج من جماليات الجانرا إلى مناطق أكثر أمانًا وأقرب للبوب. وبدأنا نرى كل رابر بين فترة وأخرى يتحدث عن عدم كونه رابر فقط، وأنه فنان شامل، وهو أمر غير مفهوم وفارغ من المعنى، يظهر من خلاله ضعف الشخصية والاستسلام لضغوط حاربوها سابقًا، بالإضافة إلى الاستسلام لضغوط النجاح التجاري أيضًا.

بالإضافة إلى ذلك، فقد الراب عنصر إبهاره في المشهد الأمريكي تدريجيًا، لم نعد نرى إصدارات ثورية فأصبح كل شيء نسخة مما قبلها أو محاولات لإعادة إنتاج أصوات قديمة. حاول مشهد الدريل البريطاني فك هذه العقدة، ولكن عمره كان قصيرًا، مع ذلك تأثر به المشهد المصري تأثرًا شديدًا حيث ظهرت حقبة بين 2021-2023 اتخذت الدريل كمأوى لها وبدأت بحلبه، ولكن الدريل جانرا ذات عناصر صوتية محدودة جدًا، ففشل الجميع في محاولات تجديده بما فيهم البريطانيون أنفسهم وسرعان ما فقد لمعانه هو الآخر وأصبح مملًا ومكررًا بشكل فج. بالإضافة إلى ذلك، موجة التراب الشعبي كانت في اضمحلال واضح، لم يعد منتجوه قادرين على تطويره أو تجديد جمالياته فبدا باهتًا لا يقدم جديدًا.

أحد الأسباب أيضًا التي أدت إلى انهيار تلك الحركة كان الرغبة في المزيد من صناع الراب، فالراب، كموسيقى مجردة ليست أكثر موسيقى قابلة للهضم والاستساغة، هي في جوهرها موسيقى متمردة وصاخبة وكلماتها لن تتخطى فئة محدودة من الناس. بدأ الرابرز بالبحث عن المزيد في مناطق أخرى، ويجز بالتحديد كان أول من جرؤ على التوجه للبوب بدون مقدمات، محققًا أرقامًا لم تحدث في المشهد من قبل بأغنية "البخت"، وهي أغنية بوب لطيفة ولكن بمقارنتها بتراك مثل "علي بابا" على سبيل المثال، ستجد طريقة كتابة منقحة ومشذبة وناعمة، حتى وإن كان موضوعها الحب فكتب ويجز عن ذلك من قبل بأسلوب وطريقة كتابة أكثر جرأة وتمردًا وأكثر أصالة بكل تأكيد. البخت كانت بمثابة نقطة فارقة في تاريخ المشهد، أعلى قمة تجارية للسين المصري ومثلت أيضًا نقطة الانحدار والاتجاه نحو موسيقى فاقدة لجمالياتها.

بدأنا نرى رابرز قدموا أصواتًا مستمدة من جذور الجانرا يفقدون إحساسهم تدريجيًا، متجهين نحو البوب تحت تبرير "التجريبية" واكتشاف مناطق جديدة. شخصيات فرضت نفسها كجزء من ثقافة وحركة فنية في بدايتها، لكنها تخلت عنها لاحقًا في سبيل النجاح التجاري والانتشار الأوسع. "فلم يعد الراب يبهرنا" كما يقول معن أبو طالب، حيث استسلم صانعوه لرأسمالية الموسيقى وضغوطها التجارية. أصبح الراب مجرد إطار خارجي هش، يصنع فيه صانعوه موسيقى بوب ركيكة دون محاولات تجريبية حقيقية. ابتلع البوب الراب فقضى على تمرده، وأصبح ناعمًا وسهل الاستساغة، وتحول إلى ماكينة لجني الأموال ووسيلة للظهور في الإعلانات أكثر من أي شيء آخر. بدأ ذلك التحول عند ويجز ووصل إلى أوجه بألبوم تووليت الأخير، الذي مزج بين البوب والراب في قالب تسعيناتي نوستالجي، معتمدًا على جماليات مشذبة، ناعمة وهجينة، قفزت به بسهولة من الراب إلى قمة البوب، معلنًا انتهاء موجة وحركة فنية قُتلت في سبيل النجاح التجاري، وسقطت عمدًا في إطارات مستهلكة.

الراب، ومع كل ذلك، هي موسيقى لن تموت، وستظل في تجدد وتطور دائم كونها لا تعتمد على تركيبة ثابتة، متلونة ومتجددة وقادرة دائمًا على توظيف واستعارة عناصر من شتى أنواع الموسيقى وتأطيرها. ربما تمر الجانرا بانحدار إبداعي في الوقت الحالي، محليًا وعالميًا، ولكن الآن في الجانرا محليًا يختلف كثيرًا عن مقابله، ففي حين أن الراب عالميًا يبدو مستهلكًا ومكررًا، لا تزال جمالياته الأساسية صلبة، ومحاولات تجديده لا تشذبه، بل تحاول جعله أكثر عنفًا وجرأة، كما رأينا في محاولات بلاي بوي كارتي وييت وغيرهم. ولكن محليًا يبدو فارغًا، متخليًا عن جمالياته وأصواته صائغة وسهلة الهضم. الحل هو التمسك بالجانرا وثقافتها، وعناصرها الجمالية وجوهرها، مع تجديدها في مسار لا يتجه للبوب، بل يطور في أساليب إنتاجها وطرق صناعتها. البوب قادر على ابتلاع كل شيء، وقد ابتلع الراب بالفعل، ولكن المقاومة لا تزال موجودة، من أبطال الأندرجراوند أو نجوم المشهد الذين تمسكوا بثقافة الجانرا.